في عام 1977، وسط لهيب النيران المدمرة التي التهمت مصنع الحديد والصلب، وقفت امرأة قطرية شجاعة أمام أقسى المشاهد الإنسانية.

جثث متفحمة لعدد كبير من العمال والمهندسين الذين احتُرقوا وهم في فترة عملهم، ومأساة تتطلب قلبا من صلب وروحا لا تهاب الصعاب.

هذه المرأة الاستثنائية كانت السيدة نصرة بنت فرج النوبي، أول ممرضة قطرية تخط بأناملها الذهبية تاريخا من العطاء والتفاني امتد لنصف قرن كامل، قبل أن تودّعها دولة قطر في السادس والعشرين من أكتوبر 2023.

في منطقة الغرافة بالخمسينيات، وُلدت طفلة صغيرة حملت في قلبها شغفا مبكرا غيّر مسار حياتها بالكامل، وتحكي نصرة رحمها الله: "وعيت شفت أنا نفسي، كل ألعابي ألعاب التمريض".

هذا الحب الفطري للمهنة النبيلة دفعها لتتعلم أصول التمريض ذاتيا دون معلم أو مدرسة، مستعينة بنهمها الشديد للقراءة والاستكشاف، حتى أصبحت المرجع الأول في بيتها كلما مرض أحد من أفراد العائلة، تسهر على راحته وتضع الكمادات بحنان الأم وخبرة الطبيب.

اللحظة الذهبية التي غيّرت حياتها جاءت في ليلة من عام 1969، عندما سمعت نصرة خبرا أشعل قلبها أملا وفرحا، وهو الإعلان عن افتتاح معهد تمريض في دولة قطر.

هذا الإعلان البسيط كان بداية تحقيق حلم العمر، حيث التحقت بأول دورة تمريض رسمية في تاريخ دولة قطر بمستشفى الرميلة، وحققت نجاحا باهرا بحصولها على المركز الأول، مما جعلها تتصدر عناوين الصحف المحلية وتصبح حديث المجتمع القطري بأكمله.

لم تتوقف طموحاتها، ففي عام 1976، شدّت الرحال إلى إيرلندا لصقل خبراتها، وعند عودتها تبوأت منصب رئيسة قسم الحروق بمستشفى الرميلة، ثم ترقت لتصبح مسؤولة عن إدارة المستشفى الذي كان يُعنى بشكل رئيسي برعاية كبار السن وذوي الإعاقة.

وعلى مدار 47 عاما من العطاء المتواصل والتفاني المطلق، لم تتوقف نصرة عن التعلم والتطوير، بل تعلمت وعلّمت في رحلة مزدوجة من النمو المستمر.

إنجازاتها المتميزة وإسهاماتها الجليلة في القطاع الصحي نالت التقدير والاعتراف على أرفع المستويات، وتُوّجت مسيرتها الحافلة بحصولها على جائزة رفيدة بنت كعب الأنصارية، أرفع تكريم يمكن أن تحصل عليه ممرضة في الوطن العربي.

لم تكن السيدة نصرة النوبي مجرد ممرضة تؤدي واجبها المهني، بل كانت أيقونة حقيقية للعطاء الإنساني والتفاني المطلق، ونموذجا يحتذى به في الإصرار على تحقيق الأحلام مهما كانت التحديات.